أرشيف
مقال رأي/ كأس أفريقيا والمونديال ينسفان "الويكلو" و"منع التنقل" ويُعيدان الجماهير الكروية إلى طاولة النقاش
على امتداد الأيام الأخيرة، فتحت الفعاليات المتداخلة في الشأن الكروي المغربي، ملف التّشجيع الرياضي وبحثت سُبل تجويده، والرّفع من كفاءته في رسم صور حضارية وغير مشوبة بأية انحرافات تمسُّ المشهد العام، في سياق تستعد فيه المملكة لاحتضان منافسات كأس أمم أفريقيا على المدى القريب واستضافة نهائيات كأس العالم سنة 2030.
اعْتُمِد مبدأ الجهوية في إقامة هذه النِّقاشات التي انْصبّت على ثقافة التشجيع في الملاعب، وأسّست ولايات في عدة جهات من التراب الوطني، أرضيةً للتداول والتّباحث حول مسألة ذات راهنية، وارتباط وثيق، بحاضر، ومستقبل الساحة الكروية المغربية، وما يتعلق بها من مجالات ذات صلة.
تحرّكت مياه هذا الموضوع ودُبَّت فيها الحياة، بعدما كانت راكدة ويَعمُّها الجمود قبل بضعة أشهر، صارت الجماهير الكروية مُعادلة مهمة في المنظومة الرياضية، بينما كانت إلى وقت قريب مدفوعة إلى التواري والانزواء في الخلف، وكانت أغلب مباريات البطولة الاحترافية تُقام وسط مقاعد فارغة، بالموازاة مع إشهار "الفيتو" في وجه المناصرين وتنقُّلهم إلى تشجيع أنديتهم.
مُعالجة الحضور الجماهيري في الملاعب الرياضية بدا كأنه ظلّ على مدار سنوات بمثابة جمرة مُستعِرّة ومُلتهبة يُخشى الإمساك بها، وتطويعها، وتفكيكها، بسبب المخاطر المُحدقة بها في بعض الأحيان والمناسبات، من انفلاتات وسلوكات تُهدّد النظام العام، والواقع أن فلسفة "كم حاجة قضيناها بتركها" كانت العُنوان الرئيس في مقاربة هذه المسألة، وكان "الويكلو" و"منع التنقل" من الوسائل البديهية المُشتغِلة والمعمول بها.
يَحْدُث هذا التحوُّل في نطاق زمني تم فيه استيعاب أهمية الجماهير، وإدراك مُسلَّمة تُحيل إلى أنها نُقطة فارقة وضابطة لسُلّم نجاح أو فشل الأحداث المُرتقب تنظيمها، لكن كيف يُمكن بناء المستقبل دون الانطلاق من الماضي وتحليله؟ هل يكفي السِّياق الضاغط الذي يُملي علينا الالتحام بالمناصرين كي نضمن سلامة وسلاسة المحافل القادمة في سيرها وتنظيمها؟
التجارب الفُضلى في دول عديدة كانت تجتهد، وتستهلك مخزونها الذِّهني في صياغة مُناخ حضاري للتشجيع الرياضي، يقودنا إلى اعتبار الجماهير كشريك أساسي في الاستراتيجيات الرامية إلى تجفيف منابع الشغب. لقد تشبَّعت بُلدان مثل إنجلترا، التي كانت مرتعا للعنف الرياضي، بفلسفة أنسنة المناصرين، والانتباه إلى أنهم بعقول تُفكِّر وتركيباتٍ نفسية تَنْهَل من خلفيات اجتماعية وعوامل مُحيطة أخرى، ومن هذا المنطلق تعاطت مع هذه الإشكالية.
لا يُجادل اثنان حول ضرورة العُنصر الزّجري، وحتمية أجرأة الترسانة القانونية وتسخيرها لردع المُخالفين، والحفاظ على السّير الطبيعي للمرافق الرياضية في حضور الجماهير، لكنها بمفردها ستظل عاجزة، وخالية من أي جدوى، إذا لم تُسْنَدُ بالإنصات لهذه الفئة، وتمتيعها بالبيئة الملائمة من جوانب عِدّة كي تنتظم في المسار المُتوخّى، حيث مرافق رياضية تضج بالحياة ومؤطرة بالنظام ومُرتادوها يستمتعون ويُشجّعون في أجواء سليمة.
الجلوس إلى طاولة الحوار والنقاش مع الجماهير ليس موعدا يُستعان به مناسباتيا، وليست وسيلة سريعة المفعول تُعيد الحشود إلى مدرجات الملاعب، بل يجب أن تتحوّل هذه الخطوة إلى عقيدة سارية على الدوام، فالمناصرون داخل الكرة الوطنية لا تعوزهم الفِطنة ولا الحدس في اختبار النوايا، ومباراة "الديربي البيضاوي" دليل على ذلك، فهم في حاجة إلى تحسُّس إرادة دائمة للنهوض بهذا الجانب وتجاوز ترسُّبات الماضي.